فصل: الثّانية‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


ما يفسد الصّوم ويوجب القضاء والكفّارة

أوّلاً‏:‏ الجماع عمداً

68 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ جماع الصّائم في نهار رمضان عامداً مختاراً بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السّبيلين مفطر يوجب القضاء والكفّارة، أنزل أو لم ينزل‏.‏ وفي قول ثان للشّافعيّة لا يجب القضاء، لأنّ الخلل انجبر بالكفّارة‏.‏

وفي قول ثالث لهم‏:‏ إن كفّر بالصّوم دخل فيه القضاء، وإلاّ فلا يدخل فيجب القضاء‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ إذا جامع في نهار رمضان - بلا عذر - آدميّاً أو غيره حيّاً أو ميّتاً أنزل أم لا فعليه القضاء والكفّارة، عامداً كان أو ساهياً، أو جاهلاً أو مخطئاً، مختاراً أو مكرهاً، وهذا لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ » بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال‏:‏ يا رسول اللّه، هلكت، قال‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل تجد رقبةً تعتقها‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك، أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعرَقٍ فيها تمر، قال‏:‏ أين السّائل‏؟‏ فقال‏:‏ أنا، قال‏:‏ خذ هذا فتصدّق به، فقال الرّجل‏:‏ على أفقر منّي يا رسول اللّه، فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه، ثمّ قال‏:‏ أطعمه أهلك «‏.‏

ولا خلاف في فساد صوم المرأة بالجماع لأنّه نوع من المفطرات، فاستوى فيه الرّجل والمرأة‏.‏ وإنّما الخلاف في وجوب الكفّارة عليها‏:‏

فمذهب أبي حنيفة ومالك وقول للشّافعيّ، ورواية عن أحمد وهي المذهب عند الحنابلة، وجوب الكفّارة عليها أيضاً، لأنّها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها كالرّجل‏.‏ وعلّل الحنفيّة وجوبها عليها، بأنّ السّبب في ذلك هو جناية الإفساد، لا نفس الوقاع، وقد شاركته فيها، وقد استويا في الجناية، والبيان في حقّ الرّجل بيان في حقّ المرأة، فقد وجد فساد صوم رمضان بإفطار كامل حرام محض متعمّد، فتجب الكفّارة عليها بدلالة النّصّ، ولا يتحمّل الرّجل عنها، لأنّ الكفّارة عبادة أو عقوبة، ولا يجري فيها التّحمّل‏.‏ وفي قول للشّافعيّ وهو الأصحّ، ورواية أخرى عن أحمد‏:‏ أنّه لا كفّارة عليها، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبةً، ولم يأمر المرأة بشيء، مع علمه بوجود ذلك منها‏.‏ ولأنّ الجماع فعله، وإنّما هي محلّ الفعل‏.‏

وفي قول للشّافعيّة‏:‏ تجب، ويتحمّلها الرّجل‏.‏

وروي عن أحمد‏:‏ أنّ الزّوج تلزمه كفّارة واحدة عنهما، وضعّفها بعض الحنابلة بأنّ الأصل عدم التّداخل‏.‏

وقال ابن عقيل من الحنابلة‏:‏ إن أكرهت المرأة على الجماع في نهار رمضان حتّى مكّنت الرّجل منها لزمتها الكفّارة، وإن غصبت أو أتيت نائمةً فلا كفّارة عليها‏.‏

ثانياً‏:‏ الأكل والشّرب عمداً

69 - ممّا يوجب القضاء والكفّارة، عند الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ الأكل والشّرب‏.‏

فإذا أكل الصّائم، في أداء رمضان أو شرب غذاءً أو دواءً، طائعاً عامداً، بغير خطأ ولا إكراه ولا نسيان، أفطر وعليه الكفّارة‏.‏

وضابطه عند الحنفيّة‏:‏ وصول ما فيه صلاح بدنه لجوفه، بأن يكون ممّا يؤكل عادةً على قصد التّغذّي أو التّداوي أو التّلذّذ، أو ممّا يميل إليه الطّبع، وتنقضي به شهوة البطن، وإن لم يكن فيه صلاح البدن، بل ضرره‏.‏

وشرطوا أيضاً لوجوب الكفّارة‏:‏ أن ينوي الصّوم ليلاً، وأن لا يكون مكرهاً، وأن لا يطرأ عذر شرعيّ لا صنع له فيه، كمرض وحيض‏.‏

وشرط المالكيّة‏:‏ أن يكون إفساد صوم رمضان خاصّةً، عمداً قصداً لانتهاك حرمة الصّوم، من غير سبب مبيح للفطر‏.‏

وتجب الكفّارة في شرب الدّخان عند الحنفيّة والمالكيّة، فإنّه ربّما أضرّ البدن، لكن تميل إليه بعض الطّباع، وتنقضي به شهوة البطن، يضاف إلى ذلك أنّه مفتر وحرام، لحديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ » نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتر «‏.‏

ودليل وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب عمداً، ما ورد في الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏:‏ » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان، أن يعتق رقبةً أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستّين مسكيناً « فإنّه علّق الكفّارة بالإفطار، وهي وإن كانت واقعة حال لا عموم لها، لكنّها علّقت بالإفطار، لا باعتبار خصوص الإفطار ولفظ الرّاوي عامّ، فاعتبر، كقوله‏:‏ » قضى بالشّفعة للجار «‏.‏

ومذهب الشّافعيّة والحنابلة عدم وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب عمداً في نهار رمضان أداءً، وذلك لأنّ النّصّ - وهو حديث الأعرابيّ الّذي وقع على امرأته في رمضان - ورد في الجماع، وما عداه ليس في معناه‏.‏

ولأنّه لا نصّ في إيجاب الكفّارة بهذا، ولا إجماع‏.‏

ولا يصحّ قياسه على الجماع، لأنّ الحاجة إلى الزّجر عنه أمسّ، والحكمة في التّعدّي به آكد، ولهذا يجب به الحدّ إذا كان محرّماً‏.‏

ثالثاً‏:‏ رفع النّيّة

70 - وممّا يوجب الكفّارة عند المالكيّة، ما لو تعمّد رفع النّيّة نهارًا، كأن يقول وهو صائم‏:‏ رفعت نيّة صومي، أو يقول رفعت نيّتي‏.‏

وأولى من ذلك، رفع النّيّة في اللّيل، كأن يكون غير ناو للصّوم، لأنّه رفعها في محلّها فلم تقع النّيّة في محلّها‏.‏

وكذلك تجب الكفّارة عند المالكيّة بالإصباح بنيّة الفطر، ولو نوى الصّيام بعده، على الأصحّ كما يقول ابن جزيّ‏.‏

أمّا إن علّق الفطر على شيء، كأن يقول‏:‏ إن وجدت طعاماً أكلت فلم يجده، أو وجده ولم يفطر فلا قضاء عليه‏.‏

أمّا عند الحنابلة - وفي وجه عند الشّافعيّة - فإنّه يجب القضاء بترك النّيّة دون الكفّارة‏.‏ وعند الحنفيّة، وفي الوجه الآخر عند الشّافعيّة‏:‏ لا يجب القضاء‏.‏

ما لا يفسد الصّوم

أوّلاً‏:‏ الأكل والشّرب في حال النّسيان

71 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأكل والشّرب في حال النّسيان لا يفسد الصّوم فرضاً أو نفلاً، خلافاً للمالكيّة، كما تقدّم في ف /38‏.‏

ثانياً‏:‏ الجماع في حال النّسيان

72 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب، والحسن البصريّ ومجاهد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر إلى أنّ الجماع في حال النّسيان لا يفطّر قياساً على الأكل والشّرب ناسياً‏.‏ وذهب المالكيّة في المشهور - وهو ظاهر مذهب الحنابلة - إلى أنّ من جامع ناسياً فسد صومه، وعليه القضاء فقط عند المالكيّة، والقضاء والكفّارة عند الحنابلة‏.‏

ثالثاً‏:‏ دخول الغبار ونحوه حلق الصّائم

73 - إذا دخل حلق الصّائم غبار أو ذباب أو دخان بنفسه، بلا صنعه، ولو كان الصّائم ذاكراً لصومه، لم يفطر إجماعاً - كما قال ابن جزيّ - لعدم قدرته على الامتناع عنه، ولا يمكن الاحتراز منه‏.‏

وكذلك إذا دخل الدّمع حلقه وكان قليلاً نحو القطرة أو القطرتين فإنّه لا يفسد صومه، لأنّ التّحرّز منه غير ممكن‏.‏

وإن كان كثيراً حتّى وجد ملوحته في جميع فمه وابتلعه فسد صومه‏.‏

رابعاً‏:‏ الادّهان

74 - لو دهن الصّائم رأسه، أو شاربه لا يضرّه ذلك، وكذا لو اختضب بحنّاء، فوجد الطّعم في حلقه لم يفسد صومه، ولا يجب عليه القضاء، إذ لا عبرة بما يكون من المسامّ، وهذا قول الجمهور‏.‏

لكن صرّح الدّردير من المالكيّة، بأنّ المعروف من المذهب وجوب القضاء‏.‏

خامساً‏:‏ الاحتلام

75 - إذا نام الصّائم فاحتلم لا يفسد صومه، بل يتمّه إجماعاً، إذا لم يفعل شيئاً يحرم عليه ويجب عليه الاغتسال‏.‏

وفي الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » ثلاث لا يفطرن الصّائم‏:‏ الحجامة والقيء والاحتلام «‏.‏

ومن أجنب ليلاً، ثمّ أصبح صائماً، فصومه صحيح، ولا قضاء عليه عند الجمهور‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ وإن بقي جنباً كلّ اليوم، وذلك لحديث‏:‏ عائشة وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما قالتا‏:‏ » نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً، من غير احتلام ثمّ يغتسل، ثمّ يصوم «‏.‏

قال الشّوكانيّ‏:‏ وإليه ذهب الجمهور، وجزم النّوويّ بأنّه استقرّ الإجماع على ذلك، وقال ابن دقيق العيد‏:‏ إنّه صار إجماعاً أو كالإجماع‏.‏

وقد أخرج الشّيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » من أصبح جنباً فلا صوم له « وحمل على النّسخ أو الإرشاد إلى الأفضل، وهو‏:‏ أنّه يستحبّ أن يغتسل قبل الفجر، ليكون على طهارة من أوّل الصّوم‏.‏

سادساً‏:‏ البلل في الفم

76 - ممّا لا يفسد الصّوم البلل الّذي يبقى في الفم بعد المضمضة، إذا ابتلعه الصّائم مع الرّيق، بشرط أن يبصق بعد مجّ الماء، لاختلاط الماء بالبصاق، فلا يخرج بمجرّد المجّ، ولا تشترط المبالغة في البصق، لأنّ الباقي بعده مجرّد بلل ورطوبة، لا يمكن التّحرّز عنه‏.‏

سابعاً‏:‏ ابتلاع ما بين الأسنان

77 - ابتلاع ما بين الأسنان، إذا كان قليلاً، لا يفسد ولا يفطر، لأنّه تبع لريقه، ولأنّه لا يمكن الاحتراز عنه، بخلاف الكثير فإنّه لا يبقى بين الأسنان، والاحتراز عنه ممكن‏.‏ والقليل‏:‏ هو ما دون الحمّصة، ولو كان قدرها أفطر‏.‏

ومذهب زفر، وهو قول للشّافعيّة‏:‏ فساد الصّوم مطلقاً، بابتلاع القليل والكثير، لأنّ الفم له حكم الظّاهر، ولهذا لا يفسد صومه بالمضمضة - كما قال المرغينانيّ - ولو أكل القليل من خارج فمه أفطر، فكذا إذا أكل من فمه‏.‏

وللشّافعيّة قول آخر بعدم الإفطار به مطلقاً‏.‏

وشرط الشّافعيّة والحنابلة، لعدم الإفطار بابتلاع ما بين الأسنان شرطين‏:‏

أوّلهما‏:‏ أن لا يقصد ابتلاعه‏.‏

والآخر‏:‏ أن يعجز عن تمييزه ومجّه، لأنّه معذور فيه غير مفرّط، فإن قدر عليهما أفطر، ولو كان دون الحمّصة، لأنّه لا مشقّة في لفظه، والتّحرّز عنه ممكن‏.‏

ومذهب المالكيّة‏:‏ عدم الإفطار بما سبق إلى جوفه من بين أسنانه، ولو عمداً، لأنّه أخذه في وقت يجوز له أخذه فيه - كما يقول الدّسوقيّ - وقيل‏:‏ لا يفطر، إلاّ إن تعمّد بلعه فيفطر، أمّا لو سبق إلى جوفه فلا يفطر‏.‏

ثامناً‏:‏ دم اللّثة والبصاق

78 - لو دميت لثته، فدخل ريقه حلقه مخلوطاً بالدّم، ولم يصل إلى جوفه، لا يفطر عند الحنفيّة، وإن كان الدّم غالباً على الرّيق، لأنّه لا يمكن الاحتراز منه، فصار بمنزلة ما بين أسنانه أو ما يبقى من أثر المضمضة، أمّا لو وصل إلى جوفه، فإن غلب الدّم فسد صومه، وعليه القضاء ولا كفّارة، وإن غلب البصاق فلا شيء عليه، وإن تساويا، فالقياس أن لا يفسد وفي الاستحسان يفسد احتياطاً‏.‏

ولو خرج البصاق على شفتيه ثمّ ابتلعه، فسد صومه، وفي الخانيّة‏:‏ ترطّبت شفتاه ببزاقه، عند الكلام ونحوه، فابتلعه، لا يفسد صومه، وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة‏.‏

ومذهب الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ الإفطار بابتلاع الرّيق المختلط بالدّم، لتغيّر الرّيق، والدّم نجس لا يجوز ابتلاعه وإذا لم يتحقّق أنّه بلع شيئاً نجساً لا يفطر، إذ لا فطر ببلع ريقه الّذي لم تخالطه النّجاسة‏.‏

تاسعاً‏:‏ ابتلاع النّخامة

79 - النّخامة هي‏:‏ النّخاعة، وهي ما يخرجه الإنسان من حلقه، من مخرج الخاء المعجمة‏.‏

قال الفيّوميّ‏:‏ هكذا قيّده ابن الأثير، وهكذا قال المطرّزيّ، وزاد‏:‏ ما يخرج من الخيشوم عند التّنحنح‏.‏

ومذهب الحنفيّة، والمعتمد عند المالكيّة‏:‏ أنّ النّخامة سواء أكانت مخاطاً نازلاً من الرّأس، أم بلغماً صاعداً من الباطن، بالسّعال أو التّنحنح - ما لم يفحش البلغم - لا يفطر مطلقاً‏.‏ وفي نصوص المالكيّة‏:‏ إنّ البلغم لا يفطر مطلقاً، ولو وصل إلى طرف اللّسان، لمشقّته، خلافاً لخليل، الّذي رأى الفساد، فيما إذا أمكن طرحه، بأن جاوز الحلق، ثمّ أرجعه وابتلعه، وأنّ عليه القضاء‏.‏

وفي رواية عن أحمد أنّ ابتلاع النّخامة لا يفطر، لأنّه معتاد في الفم غير واصل من خارج، فأشبه الرّيق‏.‏

وعند الشّافعيّة هذا التّفصيل‏:‏

إن اقتلع النّخامة من الباطن، ولفظها فلا بأس بذلك في الأصحّ، لأنّ الحاجة إليه ممّا يتكرّر، وفي قول‏:‏ يفطر بها كالاستقاءة‏.‏

ولو صعدت بنفسها، أو بسعاله، ولفظها لم يفطر جزماً‏.‏

ولو ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم، أفطر جزماً‏.‏

وإذا حصلت في ظاهر الفم، يجب قطع مجراها إلى الحلق، ومجّها، فإن تركها مع القدرة على ذلك، فوصلت إلى الجوف، أفطر في الأصحّ، لتقصيره، وفي قول‏:‏ لا يفطر، لأنّه لم يفعل شيئاً، وإنّما أمسك عن الفعل‏.‏

ولو ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم، أفطر جزماً‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّه يحرم على الصّائم بلع نخامة، إذا حصلت في فمه، ويفطر بها إذا بلعها، سواء أكانت في جوفه أم صدره، بعد أن تصل إلى فمه، لأنّها من غير الفم، فأشبه القيء، ولأنّه أمكن التّحرّز منها فأشبه الدّم‏.‏

من أجل هذا الخلاف، نبّه ابن الشّحنة على أنّه ينبغي إلقاء النّخامة، حتّى لا يفسد صومه على قول الإمام الشّافعيّ، وليكون صومه صحيحاً بالاتّفاق لقدرته على مجّها‏.‏

عاشراً‏:‏ القيء

80 - يفرّق بين ما إذا خرج القيء بنفسه، وبين الاستقاءة‏.‏

وعبّر الفقهاء عن الأوّل، بما‏:‏ إذا ذرعه القيء، أي غلب القيء الصّائم‏.‏

فإذا غلب القيء، فلا خلاف بين الفقهاء في عدم الإفطار به، قلّ القيء أم كثر، بأن ملأ الفم، وهذا لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض «‏.‏

أمّا لو عاد القيء بنفسه، في هذه الحال، بغير صنع الصّائم، ولو كان ملء الفم، مع تذكّر الصّائم للصّوم، فلا يفسد صومه، عند محمّد - من الحنفيّة - وهو الصّحيح عندهم، لعدم وجود الصّنع منه، ولأنّه لم توجد صورة الفطر، وهي الابتلاع، وكذا معناه، لأنّه لا يتغذّى به عادةً، بل النّفس تعافه‏.‏

وعند أبي يوسف‏:‏ يفسد صومه، لأنّه خارج، حتّى انتقضت به الطّهارة، وقد دخل‏.‏

وإن أعاده، أو عاد قدر حمّصة منه فأكثر، فسد صومه باتّفاق الحنفيّة، لوجود الإدخال بعد الخروج، فتتحقّق صورة الفطر ولا كفّارة فيه‏.‏

وإن كان أقلّ من ملء الفم، فعاد، لم يفسد صومه، لأنّه غير خارج، ولا صنع له في الإدخال‏.‏

وإن أعاده فكذلك عند أبي يوسف لعدم الخروج، وعند محمّد يفسد صومه، لوجود الصّنع منه في الإدخال‏.‏

ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّ المفطر في القيء هو رجوعه، سواء أكان القيء لعلّة أو امتلاء معدة، قلّ أو كثر، تغيّر أو لا، رجع عمداً أو سهواً، فإنّه مفطر وعليه القضاء‏.‏

ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّه لو عاد القيء بنفسه، لا يفطر لأنّه كالمكره، ولو أعاده أفطر، كما لو أعاد بعد انفصاله عن الفم‏.‏

81 - أمّا الاستقاءة، وهي‏:‏ استخراج ما في الجوف عمداً، أو هي‏:‏ تكلّف القيء فإنّها مفسدة للصّوم موجبة للقضاء عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - مع اختلافهم في الكفّارة‏.‏

وروي عند الحنابلة، أنّه لا يفطر بالاستقاءة إلاّ بملء الفم، قال ابن عقيل‏:‏ ولا وجه لهذه الرّواية عندي‏.‏

وللحنفيّة تفصيل في الاستقاءة‏:‏

أ - فإن كانت عمداً، والصّائم متذكّر لصومه، غير ناس، والقيء ملء فمه، فعليه القضاء للحديث المذكور، والقياس متروك به، ولا كفّارة فيه لعدم صورة الفطر‏.‏

ب - وإن كان أقلّ من ملء الفم، فكذلك عند محمّد، يفسد صومه، لإطلاق الحديث، وهو ظاهر الرّواية‏.‏

وعند أبي يوسف لا يفسد، لعدم الخروج حكماً، قالوا‏:‏ وهو الصّحيح، ثمّ إن عاد بنفسه لم يفسد عنده، لعدم سبق الخروج، وإن أعاده فعنه‏:‏ أنّه لا يفسد لعدم الخروج، وهي أصحّ الرّوايتين عنه‏.‏

ونصّ الحنفيّة على أنّ هذا كلّه إذا كان القيء طعاماً، أو مرّةً فإن كان الخارج بلغماً، فغير مفسد للصّوم، عند أبي حنيفة ومحمّد، خلافاً لأبي يوسف‏.‏

حادي عشر‏:‏ طلوع الفجر في حالة الأكل أو الجماع

82 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فليلفظه، ويصحّ صومه‏.‏ فإن ابتلعه أفطر، وكذا الحكم عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيمن أكل أو شرب ناسياً ثمّ تذكّر الصّوم، صحّ صومه إن بادر إلى لفظه‏.‏ وإن سبق شيء إلى جوفه بغير اختياره، فلا يفطر عند الحنابلة، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة‏.‏

وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ إذا وصل شيء من ذلك إلى جوفه - ولو غلبه - أفطر‏.‏

وإذا نزع، وقطع الجماع عند طلوع الفجر في الحال فمذهب الحنفيّة والشّافعيّة - وأحد قولين للمالكيّة - لا يفسد صومه، وقيّده القليوبيّ بأن لا يقصد اللّذّة بالنّزع، وإلاّ بطل صومه، حتّى لو أمنى بعد النّزع، لا شيء عليه، وصومه صحيح، لأنّه كالاحتلام، كما يقول الحنفيّة، ولتولّده من مباشرة مباحة، كما يقول الشّافعيّة‏.‏

ومشهور مذهب المالكيّة‏:‏ أنّه لو نزع عند طلوع الفجر، وأمنى حال الطّلوع - لا قبله ولا بعده - فلا قضاء، لأنّ الّذي بعده من النّهار والّذي قبله من اللّيل، والنّزع ليس وطئاً‏.‏ والقول الآخر للمالكيّة هو وجوب القضاء‏.‏

وسبب هذا الاختلاف عند المالكيّة هو أنّه‏:‏ هل يعدّ النّزع جماعاً، أو لا يعدّ جماعاً‏؟‏

ولهذا قالوا‏:‏ من طلع عليه الفجر – وهو يجامع – فعليه القضاء، وقيل‏:‏ والكفّارة‏.‏ ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّ النّزع جماع، فمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال، مع أوّل طلوع الفجر، فعليه القضاء والكفّارة، لأنّه يلتذّ بالنّزع، كما يلتذّ بالإيلاج، كما لو استدام بعد طلوع الفجر‏.‏

ولو مكث بعد طلوع الفجر مجامعاً، بطل صومه، ولو لم يعلم بطلوعه‏.‏

وفي وجوب الكفّارة في المكث والبقاء، في هذه الحال، خلاف‏:‏ فظاهر الرّواية، في مذهب الحنفيّة، والمذهب عند الشّافعيّة عدم وجوب الكفّارة، لأنّها تجب بإفساد الصّوم، والصّوم منتف حال الجماع فاستحال إفساده، فلم تجب الكفّارة‏.‏

أو كما قال النّوويّ‏:‏ لأنّ مكثه مسبوق ببطلان الصّوم‏.‏

وروي عن أبي يوسف وجوب الكفّارة‏.‏

مكروهات الصّوم

83 - يكره للصّائم بوجه عامّ - مع الخلاف - ما يلي‏:‏

أ - ذوق شيء بلا عذر، لما فيه من تعريض الصّوم للفساد، ولو كان الصّوم نفلاً، على المذهب عند الحنفيّة، لأنّه يحرم إبطال النّفل بعد الشّروع فيه، وظاهر إطلاق الكراهة يفيد أنّها تحريميّة‏.‏

ومن العذر مضغ الطّعام للولد، إذا لم تجد الأمّ منه بدّاً، فلا بأس به، ويكره إذا كان لها منه بدّ‏.‏

وليس من العذر، ذوق اللّبن والعسل لمعرفة الجيّد منه والرّديء عند الشّراء، فيكره ذلك‏.‏ وكذا ذوق الطّعام، لينظر اعتداله، ولو كان لصانع الطّعام‏.‏

لكن نقل عن الإمام أحمد قوله‏:‏ أحبّ إليّ أن يجتنب ذوق الطّعام، فإن فعل فلا بأس به، بل قال بعض الحنابلة‏:‏ إنّ المنصوص عنه‏:‏ أنّه لا بأس به لحاجة ومصلحة، واختاره ابن عقيل وغيره وإلاّ كره‏.‏

وإن وجد طعم المذوق في حلقه أفطر‏.‏

ب - ويكره مضغ العلك، الّذي لا يتحلّل منه أجزاءً، فلا يصل منه شيء إلى الجوف‏.‏ ووجه الكراهة‏:‏ اتّهامه بالفطر، سواء أكان رجلاً أم امرأةً، قال عليّ رضي الله تعالى عنه‏:‏ إيّاك وما يسبق إلى العقول إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره‏.‏

أمّا ما يتحلّل منه أجزاء، فيحرم مضغه، ولو لم يبتلع ريقه، إقامةً للمظنّة مقام المئنّة، فإن تفتّت فوصل شيء منه إلى جوفه عمداً أفطر، وإن شكّ في الوصول لم يفطر‏.‏

ج - تكره القبلة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏تقبيل ف /17‏)‏‏.‏

د - ويرى جمهور الفقهاء أنّ المباشرة والمعانقة ودواعي الوطء - كاللّمس وتكرار النّظر- حكمها حكم القبلة فيما تقدّم‏.‏

وخصّ الحنفيّة المباشرة الفاحشة، بالكراهة التّحريميّة، وهي - عندهم - أن يتعانقا، وهما متجرّدان، ويمسّ فرجه فرجها‏.‏ ونصّوا على أنّ الصّحيح أنّها تكره، وإن أمن على نفسه الإنزال والجماع‏.‏

ونقل الطّحاويّ وابن عابدين عدم الخلاف في كراهتها، وكذلك القبلة الفاحشة، وهي‏:‏ أن يمصّ شفتها، فيكره على الإطلاق‏.‏

هـ – الحجامة، وهي أيضاً ممّا يكره للصّائم – في الجملة – وهي استخراج الدّم المحقن من الجسم، مصّاً أو شرطاً‏.‏

ومذهب الجمهور أنّها لا تفطّر الحاجم ولا المحجوم، ولكنّهم كرهوها بوجه عامّ‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا بأس بها، إن أمن الصّائم على نفسه الضّعف، أمّا إذا خاف الضّعف، فإنّها تكره، وشرط شيخ الإسلام الكراهة، إذا كانت تورث ضعفاً يحتاج معه إلى الفطر‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إنّ المريض والصّحيح، إذا علمت سلامتهما بالحجامة أو ظنّت، جازت الحجامة لهما، وإن علم أو ظنّ عدم السّلامة لهما حرّمت لهما، وفي حالة الشّكّ تكره للمريض، وتجوز للصّحيح‏.‏

قالوا‏:‏ إنّ محلّ المنع إذا لم يخش بتأخيرها عليل هلاكاً أو شديد أذىً، وإلاّ وجب فعلها وإن أدّت للفطر، ولا كفّارة عليه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يستحبّ الاحتراز من الحجامة، من الحاجم والمحجوم، لأنّها تضعفه‏.‏

قال الشّافعيّ في الأمّ‏:‏ لو ترك رجل الحجامة صائماً للتّوقّي، كان أحبّ إليّ، ولو احتجم لم أره يفطره‏.‏

ونقل النّوويّ عن الخطّابيّ، أنّ المحجوم قد يضعف فتلحقه مشقّة، فيعجز عن الصّوم فيفطر بسببها، والحاجم قد يصل إلى جوفه شيء من الدّم‏.‏

ودليل عدم الإفطار بالحجامة، حديث‏:‏ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم «‏.‏

ودليل كراهة الحجامة حديث ثابت البنانيّ أنّه قال لأنس بن مالك‏:‏ » أكنتم تكرهون الحجامة للصّائم على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلاّ من أجل الضّعف «‏.‏

وقالوا أيضاً‏:‏ إنّه دم خارج من البدن، فأشبه الفصد‏.‏

ومذهب الحنابلة أنّ الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم، لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » أفطر الحاجم والمحجوم «‏.‏

قال المرداويّ‏:‏ ولا نعلم أحداً من الأصحاب، فرّق - في الفطر وعدمه - بين الحاجم والمحجوم‏.‏

قال الشّوكانيّ‏:‏ يجمع بين الأحاديث، بأنّ الحجامة مكروهة في حقّ من كان يضعف بها، وتزداد الكراهة إذا كان الضّعف يبلغ إلى حدّ يكون سبباً للإفطار، ولا تكره في حقّ من كان لا يضعف بها، وعلى كلّ حال تجنّب الحجامة للصّائم أولى‏.‏

أمّا الفصد، فقد نصّ الحنفيّة على كراهته، كالحجامة، وكراهة كلّ عمل شاقّ، وكلّ ما يظنّ أنّه يضعف عن الصّوم، وكذلك صرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّ الفصادة كالحجامة‏.‏

غير أنّ الحنابلة الّذين قالوا، بالفطر في الحجامة، قالوا‏:‏ لا فطر بفصد وشرط، ولا بإخراج دمه برعاف، لأنّه لا نصّ فيه، والقياس لا يقتضيه‏.‏

وفي قول لهم - اختاره الشّيخ تقيّ الدّين - إفطار المفصود دون الفاصد، كما اختار إفطار الصّائم، بإخراج دمه، برعاف وغيره‏.‏

و - وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق في الصّوم‏.‏

ففي المضمضة‏:‏ بإيصال الماء إلى رأس الحلق، وفي الاستنشاق‏:‏ بإيصاله إلى فوق المارن‏.‏

وذلك لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ » بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائماً «، وذلك خشية فساد صومه‏.‏

ومن المكروهات الّتي عدّدها المالكيّة‏:‏ فضول القول والعمل، وإدخال كلّ رطب له طعم - في فمه - وإن مجّه، والإكثار من النّوم في النّهار‏.‏

ما لا يكره في الصّوم

84 - لا يكره للصّائم - في الجملة - ما يلي، مع الخلاف في بعضها‏:‏

أ - الاكتحال غير مكروه عند الحنفيّة والشّافعيّة، بل أجازوه، ونصّوا على أنّه لا يفطر به الصّائم ولو وجد طعمه في حلقه، قال النّوويّ‏:‏ لأنّ العين ليست بجوف، ولا منفذ منها إلى الحلق‏.‏

واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ » اكتحل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو صائم «، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ » جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اشتكت عيني، أفأكتحل وأنا صائم‏؟‏ قال‏:‏ نعم «‏.‏

وتردّد المالكيّة في الاكتحال، فقالوا‏:‏ إن كان لا يتحلّل منه شيء لم يفطر، وإن تحلّل منه شيء أفطر‏.‏ وقال أبو مصعب‏:‏ لا يفطر‏.‏ ومنعه ابن القاسم مطلقاً‏.‏

وقال أبو الحسن‏:‏ إن تحقّق أنّه يصل إلى حلقه، لم يكن له أن يفعله، وإن شكّ كره، ولْيَتَمَادَ - أي يستمرّ في صومه - وعليه القضاء، فإن علم أنّه لا يصل، فلا شيء عليه‏.‏ وقال مالك في المدوّنة‏:‏ إذا دخل حلقه، وعلم أنّه قد وصل الكحل إلى حلقه، فعليه القضاء ولا كفّارة عليه‏.‏ وإن تحقّق عدم وصوله للحلق لا شيء عليه، كاكتحاله ليلاً وهبوطه نهاراً للحلق، لا شيء عليه في شيء من ذلك‏.‏

وهذا أيضاً مذهب الحنابلة، فقد قالوا‏:‏ إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه ويتحقّق الوصول إليه فسد صومه، وهذا الصّحيح من المذهب‏.‏

واستدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » أمر بالإثمد المروّح عند النّوم، وقال‏:‏ ليتّقه الصّائم « ولأنّ العين منفذ، لكنّه غير معتاد، وكالواصل من الأنف‏.‏

واختار الشّيخ تقيّ الدّين أنّه لا يفطر بذلك‏.‏

ب - التّقطير في العين، ودهن الأجفان، أو وضع دواء مع الدّهن في العين لا يفسد الصّوم، لأنّه لا ينافيه وإن وجد طعمه في حلقه، وهو الأصحّ عند الحنفيّة، والظّاهر من كلام الشّافعيّة أنّهم يوافقون الحنفيّة‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ التّقطير في العين مفسد للصّوم إذا وصل إلى الحلق، لأنّ العين منفذ وإن لم يكن معتاداً‏.‏

ج - دهن الشّارب ونحوه، كالرّأس والبطن، لا يفطر بذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة، ولو وصل إلى جوفه بشرب المسامّ، لأنّه لم يصل من منفذ مفتوح، ولأنّه ليس فيه شيء ينافي الصّوم، ولأنّه - كما يقول المرغينانيّ -‏:‏ نوع ارتفاق، وليس من محظورات الصّوم‏.‏ لكن المالكيّة قالوا‏:‏ من دهن رأسه نهاراً، ووجد طعمه في حلقه، أو وضع حنّاء في رأسه نهاراً، فاستطعمها في حلقه، فالمعروف في المذهب وجوب القضاء وإن قال الدّردير‏:‏ لا قضاء عليه، والقاعدة عندهم‏:‏ وصول مائع للحلق، ولو كان من غير الفم، مع أنّهم قالوا‏:‏ لا قضاء في دهن جائفة، وهي‏:‏ الجرح النّافذ للجوف، لأنّه لا يدخل مدخل الطّعام‏.‏

د - الاستياك، لا يرى الفقهاء بالاستياك بالعود اليابس أوّل النّهار بأساً، ولا يكره عند الحنفيّة والمالكيّة بعد الزّوال، وهو وجه عند الشّافعيّة في النّفل، ليكون أبعد من الرّياء، ورواية عند الحنابلة آخر النّهار‏.‏ بل صرّح الأوّلون بسنّيّته آخر النّهار وأوّله، وذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من خير خصال الصّائم السّواك «‏.‏

ولقول عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه‏:‏ » رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي، يتسوّك وهو صائم «‏.‏

وقد أطلقت هذه الأحاديث السّواك، فيسنّ ولو كان رطباً، أو مبلولاً بالماء، خلافاً لأبي يوسف في رواية كراهة الرّطب، ولأحمد في رواية كراهة المبلول بالماء، لاحتمال أن يتحلّل منه أجزاء إلى حلقه، فيفطّره، وروي عن أحمد أنّه لا يكره‏.‏

وشرط المالكيّة لجوازه أن لا يتحلّل منه شيء، فإن تحلّل منه شيء كره، وإن وصل إلى الحلق أفطر‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى سنّيّة ترك السّواك بعد الزّوال، وإذا استاك فلا فرق بين الرّطب واليابس، بشرط أن يحترز عن ابتلاع شيء منه أو من رطوبته‏.‏

واستحبّ أحمد ترك السّواك بالعشيّ، وقال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » خلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك الأذفر « لتلك الرّائحة لا يعجبني للصّائم أن يستاك بالعشيّ‏.‏

وعنه روايتان في الاستياك بالعود الرّطب‏:‏

إحداهما‏:‏ الكراهة - كما تقدّم - والأخرى‏:‏ أنّه لا يكره، قال ابن قدامة‏:‏ ولم ير أهل العلم بالسّواك أوّل النّهار بأساً، إذا كان العود يابساً‏.‏

هـ – المضمضة والاستنشاق في غير الوضوء والغسل لا يكره ذلك ولا يفطر‏.‏

وقيّده المالكيّة بما إذا كان لعطش ونحوه، وكرهوه لغير موجب، لأنّ فيه تغريراً ومخاطرةً، وذلك لاحتمال سبق شيء من الماء إلى الحلق، فيفسد الصّوم حينئذ‏.‏

وفي الحديث عن عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ » أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصّائم‏؟‏ فقال‏:‏ أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم‏؟‏ قلت‏:‏ لا بأس، قال‏:‏ فمه «‏.‏

ولأنّ الفم في حكم الظّاهر، لا يبطل الصّوم بالواصل إليه كالأنف والعين‏.‏

ومع ذلك، فقد قال ابن قدامة‏:‏ إنّ المضمضة، إن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه، فحكمه حكم المضمضة للطّهارة، وإن كان عابثاً، أو مضمض من أجل العطش كره‏.‏

ولا بأس أن يصبّ الماء على رأسه من الحرّ والعطش، لما روي عن بعض أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالعرج، يصبّ الماء على رأسه وهو صائم، من العطش، أو من الحرّ «‏.‏

وكذا التّلفّف بثوب مبتلّ للتّبرّد ودفع الحرّ على المفتى به - عند الحنفيّة - لهذا الحديث، ولأنّ بهذه عوناً له على العبادة، ودفعاً للضّجر والضّيق‏.‏

وكرهها أبو حنيفة، لما فيها من إظهار الضّجر في إقامة العبادة‏.‏

و - اغتسال الصّائم، فلا يكره، ولا بأس به حتّى للتّبرّد، عند الحنفيّة وذلك لما روي عن عائشة وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما قالتا‏:‏ » نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً، من غير احتلام، ثمّ يغتسل ثمّ يصوم «‏.‏

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه دخل الحمّام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان‏.‏

وأمّا الغوص في الماء، إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه، فلا بأس به، وكرهه بعض الفقهاء حال الإسراف والتّجاوز أو العبث، خوف فساد الصّوم‏.‏

الآثار المترتّبة على الإفطار

85 - حصر الفقهاء الآثار المترتّبة على الإفطار في أمور، منها‏:‏ القضاء، والكفّارة الكبرى، والكفّارة الصّغرى - وهذه هي الفدية - والإمساك بقيّة النّهار، وقطع التّتابع، والعقوبة‏.‏

أوّلاً‏:‏ القضاء

86 - من أفطر أيّاماً من رمضان - كالمريض والمسافر - قضى بعدّة ما فاته، لأنّ القضاء يجب أن يكون بعدّة ما فاته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

ومن فاته صوم رمضان كلّه، قضى الشّهر كلّه، سواء ابتدأه من أوّل الشّهر أو من أثنائه، كأعداد الصّلوات الفائتة‏.‏

قال الأبيّ‏:‏ القضاء لما فات من رمضان بالعدد‏:‏ فمن أفطر رمضان كلّه، وكان ثلاثين، وقضاه في شهر بالهلال، وكان تسعةً وعشرين يوماً، صام يوماً آخر‏.‏ وإن فاته صوم رمضان وهو تسعة وعشرون يوماً، وقضاه في شهر - وكان ثلاثين يوماً - فلا يلزمه صوم اليوم الأخير، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ إن صام بالهلال، كفاه ما صامه، ولو كان تسعةً وعشرين، ورمضان ثلاثين‏.‏

وكذا قال القاضي من الحنابلة‏:‏ إن قضى شهراً هلاليّاً أجزأه، سواء كان تامّاً أو ناقصاً وإن لم يقض شهراً، صام ثلاثين يوماً‏.‏ وهو ظاهر كلام الخرقيّ‏.‏

قال المجد‏:‏ وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وقال‏:‏ هو أشهر‏.‏

ويجوز أن يقضي يوم شتاء عن يوم صيف، ويجوز عكسه، بأن يقضي يوم صيف عن يوم شتاء، وهذا لعموم الآية المذكورة وإطلاقها‏.‏

وقضاء رمضان يكون على التّراخي‏.‏ لكن الجمهور قيّدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه، بأن يهلّ رمضان آخر، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ » كان يكون عليّ الصّوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان، لمكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم «‏.‏ كما لا يؤخّر الصّلاة الأولى إلى الثّانية‏.‏

ولا يجوز عند الجمهور تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر، من غير عذر يأثم به، لحديث عائشة هذا، فإن أخّر فعليه الفدية‏:‏ إطعام مسكين لكلّ يوم، لما روي عن ابن عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتّى أدركه رمضان آخر‏:‏ عليه القضاء وإطعام مسكين لكلّ يوم، وهذه الفدية للتّأخير، أمّا فدية المرضع ونحوها فلفضيلة الوقت، وفدية الهرم لأصل الصّوم، ويجوز الإطعام قبل القضاء ومعه وبعده‏.‏

ومذهب الحنفيّة، وهو وجه محتمل عند الحنابلة‏:‏ إطلاق التّراخي بلا قيد، فلو جاء رمضان آخر، ولم يقض الفائت، قدّم صوم الأداء على القضاء، حتّى لو نوى الصّوم عن القضاء لم يقع إلاّ عن الأداء، ولا فدية عليه بالتّأخير إليه، لإطلاق النّصّ، وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

وعند غير الحنفيّة يحرم التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان، ولا يصحّ تطوّعه بالصّوم قبل قضاء ما عليه من رمضان، بل يبدأ بالفرض حتّى يقضيه، وإن كان عليه نذر صامه بعد الفرض، لأنّ الصّوم عبادة متكرّرة، فلم يجز تأخير الأولى عن الثّانية، كالصّلوات المفروضة‏.‏

مسائل تتعلّق بالقضاء

الأولى

87 - إن أخّر قضاء رمضان - وكذا النّذر والكفّارة - لعذر، بأن استمرّ مرضه أو سفره المباح إلى موته، ولم يتمكّن من القضاء، فلا شيء عليه، ولا تدارك للغائب بالفدية ولا بالقضاء، لعدم تقصيره، ولا إثم به، لأنّه فرض لم يتمكّن منه إلى الموت، فسقط حكمه، كالحجّ، ولأنّه يجوز تأخير رمضان بهذا العذر أداءً، فتأخير القضاء أولى، كما يقول النّوويّ‏.‏

وسواء استمرّ العذر إلى الموت، أم حصل الموت في رمضان، ولو بعد زوال العذر كما قال الشّربينيّ الخطيب‏.‏

وقال أبو الخطّاب‏:‏ يحتمل أن يجب الصّوم عنه أو التّكفير

الثّانية‏:‏

88 - لو أفطر بعذر واتّصل العذر بالموت فقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا يصام عنه ولا كفّارة فيه، لأنّه فرض لم يتمكّن من فعله إلى الموت فسقط حكمه، كالحجّ‏.‏

أمّا إذا زال العذر وتمكّن من القضاء، ولم يقض حتّى مات ففيه تفصيل‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المذهب، وهو الأصحّ والجديد عند الشّافعيّة - إلى أنّه لا يصام عنه، لأنّ الصّوم واجب بأصل الشّرع لا يقضى عنه، لأنّه لا تدخله النّيابة في الحياة فكذلك بعد الممات كالصّلاة‏.‏

وذهب الشّافعيّة في القديم، وهو المختار عند النّوويّ، وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة إلى أنّه يجوز لوليّه أن يصوم عنه، زاد الشّافعيّة‏:‏ ويصحّ ذلك، ويجزئه عن الإطعام، وتبرأ به ذمّة الميّت ولا يلزم الوليّ الصّوم بل هو إلى خيرته، لحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من مات وعليه صيام صام عنه وليّه «‏.‏

أمّا في وجوب الفدية فقد اختلفوا فيه على النّحو التّالي‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ لو أخّر قضاء رمضان بغير عذر، ثمّ مات قبل رمضان آخر أو بعده، ولم يقض لزمه الإيصاء بكفّارة ما أفطره بقدر الإقامة من السّفر والصّحّة من المرض وزوال العذر، ولا يجب الإيصاء بكفّارة ما أفطره على من مات قبل زوال العذر‏.‏

وذهب الشّافعيّة - في الجديد - إلى أنّه يجب في تركته لكلّ يوم مدّ من طعام‏.‏

وذهب الحنابلة في المذهب إلى الإطعام عنه لكلّ يوم مسكيناً‏.‏

والظّاهر من مذهب المالكيّة‏:‏ وجوب مدّ عن كلّ يوم أفطره إذا فرّط، بأن كان صحيحاً مقيماً خالياً من الأعذار‏.‏

ثانياً‏:‏ الكفّارة الكبرى

89 - ثبتت الكفّارة الكبرى بالنّصّ في حديث الأعرابيّ الّذي واقع زوجته في نهار رمضان‏.‏ ولا خلاف بين الفقهاء في وجوبها بإفساد الصّوم بالوقاع في الجملة، وإنّما الخلاف في وجوبها بإفساده بالطّعام والشّراب‏:‏ فتجب - في الجملة أيضاً - بإفساد صوم رمضان خاصّةً، طائعاً متعمّداً غير مضطرّ، قاصداً انتهاك حرمة الصّوم، من غير سبب مبيح للفطر‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّما يكفّر إذا نوى الصّيام ليلاً، ولم يكن مكرهاً، ولم يطرأ مسقط، كمرض وحيض‏.‏

فلا كفّارة في الإفطار في غير رمضان، ولا كفّارة على النّاسي والمكره - عند الجمهور - ولا على النّفساء والحائض والمجنون، ولا على المريض والمسافر، ولا على المرهق بالجوع والعطش، ولا على الحامل، لعذرهم‏.‏

ولا على المرتدّ، لأنّه هتك حرمة الإسلام، لا حرمة الصّيام خصوصاً‏.‏

فتجب بالجماع عمداً، لا ناسياً - خلافاً لأحمد وابن الماجشون من المالكيّة - وتجب بالأكل والشّرب عمداً، خلافاً للشّافعيّ وأحمد، وتقدّمت موجبات أخرى مختلف فيها، كالإصباح بنيّة الفطر، ورفض النّيّة نهاراً والاستقاء العامد، وابتلاع ما لا يغذّي عمداً‏.‏

أمّا خصال الكفّارة فهي‏:‏ العتق والصّيام والإطعام، وهذا بالاتّفاق بين الفقهاء، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ » بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال‏:‏ يا رسول اللّه، هلكت، قال‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل تجد رقبةً تعتقها‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك، أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيها تمر، قال‏:‏ أين السّائل‏؟‏ فقال‏:‏ أنا، قال‏:‏ خذ هذا فتصدّق به، فقال الرّجل‏:‏ على أفقر منّي يا رسول اللّه، فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه، ثمّ قال‏:‏ أطعمه أهلك «‏.‏

قال ابن تيميّة الجدّ في تعليقه على هذا الحديث‏:‏ وفيه دلالة قويّة على التّرتيب‏.‏

قالوا‏:‏ فكفّارته ككفّارة الظّهار، لكنّها ثابتة بالكتاب، وأمّا هذه فبالسّنّة‏.‏

وقال الشّوكانيّ‏:‏ ظاهر الحديث أنّ الكفّارة بالخصال الثّلاث على التّرتيب‏.‏

قال ابن العربيّ‏:‏ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر، وليس هذا شأن التّخيير‏.‏

وقال البيضاويّ‏:‏ إنّ ترتيب الثّاني على الأوّل، والثّالث على الثّاني، بالفاء يدلّ على عدم التّخيير، مع كونها في معرض البيان وجواب السّؤال، فنزل منزلة الشّرط وإلى القول بالتّرتيب ذهب الجمهور‏.‏ وأنّها ككفّارة الظّهار‏:‏ فيعتق أوّلاً، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستّين مسكيناً، لهذا الحديث‏.‏

ثالثاً‏:‏ الكفّارة الصّغرى

90 - الكفّارة الصّغرى‏:‏ هي الفدية، وتقدّم أنّها مدّ من طعام لمسكين إذا كان من البرّ، أو نصف صاع إذا كان من غيره، وذلك عن كلّ يوم، وهي عند الحنفيّة كالفطرة قدراً، وتكفي فيها الإباحة، ولا يشترط التّمليك هنا، بخلاف الفطرة‏.‏

وتجب على من أخّر قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر، وعلى الحامل والمرضع والشّيخ الهرم‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏فدية‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ الإمساك لحرمة شهر رمضان

91 - من لوازم الإفطار في رمضان‏:‏ الإمساك لحرمة الشّهر، قال النّوويّ‏:‏ وهو من خواصّ رمضان، كالكفّارة، فلا إمساك على متعدّ بالفطر، وفي نذر أو قضاء وفيه خلاف وتفصيل وتفريع في المذاهب الفقهيّة‏:‏

فالحنفيّة وضعوا أصلين لهذا الإمساك‏:‏

أوّلهما‏:‏ أنّ كلّ من صار في آخر النّهار بصفة، لو كان في أوّل النّهار عليها للزمه الصّوم، فعليه الإمساك‏.‏

ثانيهما‏:‏ كلّ من وجب عليه الصّوم، لوجود سبب الوجوب والأهليّة، ثمّ تعذّر عليه المضيّ، بأن أفطر متعمّداً، أو أصبح يوم الشّكّ مفطراً، ثمّ تبيّن أنّه من رمضان، أو تسحّر على ظنّ أنّ الفجر لم يطلع، ثمّ تبيّن طلوعه، فإنّه يجب عليه الإمساك تشبّهاً على الأصحّ، لأنّ الفطر قبيح، وترك القبيح واجب شرعاً، وقيل‏:‏ يستحبّ‏.‏

وأجمع الحنفيّة على أنّه لا يجب على الحائض والنّفساء والمريض والمسافر هذا الإمساك‏.‏ وأجمعوا على وجوبه على من أفطر عمداً، أو خطأً، أو أفطر يوم الشّكّ ثمّ تبيّن أنّه من رمضان، وكذا على مسافر أقام، وحائض ونفساء طهرتا، ومجنون أفاق، ومريض صحّ، ومفطر ولو مكرهاً أو خطأً، وصبيّ بلغ، وكافر أسلم‏.‏

وقال ابن جزيّ من المالكيّة‏:‏ وأمّا إمساك بقيّة اليوم، فيؤمر به من أفطر في رمضان خاصّةً، عمداً أو نسياناً، لا من أفطر لعذر مبيح ثمّ زال العذر مع العلم برمضان، فإنّه لا يندب له الإمساك، كمن اضطرّ للفطر في رمضان، من شدّة جوع أو عطش فأفطر، وكحائض ونفساء طهرتا نهاراً، ومريض صحّ نهاراً، ومرضع مات ولدها، ومسافر قدم، ومجنون أفاق، وصبيّ بلغ نهاراً، فلا يندب الإمساك منهم‏.‏

وقيّد العلم برمضان، احتراز عمّن أفطر ناسياً، وعمّن أفطر يوم الشّكّ ثمّ ثبت أنّه من رمضان، فإنّه يجب الإمساك، كصبيّ بيّت الصّوم، واستمرّ صائماً حتّى بلغ، فإنّه يجب عليه الإمساك، لانعقاد صومه له نافلةً، أو أفطر ناسياً قبل بلوغه فيجب عليه بعد الإمساك، وإن لم يجب القضاء على الصّبيّ في هاتين الصّورتين‏.‏

ونصّوا كذلك على أنّ من أكره على الفطر، فإنّه يجب عليه الإمساك، بعد زوال الإكراه قالوا‏:‏ لأنّ فعله قبل زوال العذر، لا يتّصف بإباحة ولا غيرها‏.‏

ونصّوا على أنّه يندب إمساك بقيّة اليوم لمن أسلم، لتظهر عليه علامة الإسلام بسرعة، ولم يجب، تأليفاً له للإسلام، كما ندب قضاؤه، ولم يجب لذلك‏.‏

والشّافعيّة بعد أن نصّوا على أنّ الإمساك تشبّهاً من خواصّ رمضان، كالكفّارة، وأنّ من أمسك تشبّهاً ليس في صوم وضعوا هذه القاعدة، وهي‏:‏ أنّ الإمساك يجب على كلّ متعدّ بالفطر في رمضان، سواء أكل أو ارتدّ أو نوى الخروج من الصّوم - وقلنا إنّه يخرج بذلك- كما يجب على من نسي النّيّة من اللّيل، وهو غير واجب على من أبيح له الفطر إباحةً حقيقيّةً، كالمسافر إذا قدم، والمريض إذا برئ بقيّة النّهار‏.‏

ونظروا بعد ذلك في هذه الأحوال‏:‏

المريض والمسافر، اللّذان يباح لهما الفطر، لهما ثلاثة أحوال‏:‏

الأولى‏:‏ أن يصبحا صائمين، ويدوما كذلك إلى زوال العذر، فالمذهب لزوم إتمام الصّوم‏.‏ الثّانية‏:‏ أن يزول العذر بعد ما أفطر، فلا يجب الإمساك، لكن يستحبّ لحرمة الوقت - كما يقول المحلّيّ - فإن أكلا أخفياه، لئلاّ يتعرّضا للتّهمة وعقوبة السّلطان، ولهما الجماع بعد زوال العذر، إذا لم تكن المرأة صائمةً، بأن كانت صغيرةً، أو طهرت من الحيض ذلك اليوم‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يصبحا غير ناويين، ويزول العذر قبل أن يأكلا، ففي المذهب قولان‏:‏

لا يلزمهما الإمساك في المذهب، لأنّ من أصبح تاركاً للنّيّة فقد أصبح مفطراً، فكان كما لو أكل وقيل‏:‏ يلزمهما الإمساك حرمةً لليوم‏.‏

وإذا أصبح يوم الشّكّ مفطراً غير صائم، ثمّ ثبت أنّه من رمضان، فقضاؤه واجب، ويجب إمساكه على الأظهر، وقيل‏:‏ لا يلزمه، لعذره‏.‏

أمّا لو بان أنّه من رمضان قبل الأكل‏:‏ فقد حكى المتولّي في لزوم الإمساك القولين، وجزم الماورديّ وجماعة بلزومه‏.‏

قال القليوبيّ وهو المعتمد‏.‏

وإذا بلغ صبيّ مفطراً أو أفاق مجنون، أو أسلم كافر أثناء يوم من رمضان ففيه أوجه‏:‏ أصحّها أنّه لا يلزمهم إمساك بقيّة النّهار لأنّه يلزمهم قضاؤه، والثّاني‏:‏ أنّه يلزمهم، بناءً على لزوم القضاء‏.‏

والثّالث‏:‏ يلزم الكافر دونهما، لتقصيره‏.‏

والرّابع‏:‏ يلزم الكافر والصّبيّ لتقصيرهما، أو لأنّهما مأموران على الجملة - كما يقول الغزاليّ - دون المجنون‏.‏

قال المحلّيّ‏:‏ لو بلغ الصّبيّ بالنّهار صائماً، بأن نوى ليلاً، وجب عليه إتمامه بلا قضاء، وقيل‏:‏ يستحبّ إتمامه، ويلزمه القضاء، لأنّه لم ينو الفرض‏.‏

والحائض والنّفساء إذا طهرتا في أثناء النّهار، فالمذهب أنّه لا يلزمهما الإمساك، ونقل الإمام الاتّفاق عليه‏.‏

وفي مذهب الحنابلة هذه القاعدة بفروعها‏:‏

من صار في أثناء يوم من رمضان أهلاً للوجوب لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة الوقت، ولقيام البيّنة فيه بالرّؤية، ولإدراكه جزءاً من وقته كالصّلاة‏.‏

وكذا كلّ من أفطر والصّوم يجب عليه، فإنّه يلزمه الإمساك والقضاء، كالفطر لغير عذر، ومن أفطر يظنّ أنّ الفجر لم يطلع وكان قد طلع، أو يظنّ أنّ الشّمس قد غابت ولم تغب، أو النّاسي للنّيّة، فكلّهم يلزمهم الإمساك، قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم بينهم فيه اختلافاً‏.‏ أو تعمّدت مكلّفة الفطر، ثمّ حاضت أو نفست، أو تعمّد الفطر مقيم ثمّ سافر، فكلّهم يلزمهم الإمساك والقضاء، لما سبق‏.‏

فأمّا من يباح له الفطر في أوّل النّهار ظاهراً وباطناً كالحائض والنّفساء والمسافر والصّبيّ والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النّهار، فطهرت الحائض والنّفساء، وأقام المسافر، وبلغ الصّبيّ، وأفاق المجنون، وأسلم الكافر، وصحّ المريض، ففيهم روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يلزمهم الإمساك بقيّة اليوم، لأنّه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصّيام، فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك، كقيام البيّنة بالرّؤية‏.‏

واقتصر على موجب هذه الرّواية البهوتيّ، في كشّافه وروضه‏.‏

والأخرى‏:‏ لا يلزمهم الإمساك، لأنّه روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّه قال‏:‏ من أكل أوّل النّهار، فليأكل آخره‏.‏

ولأنّه أبيح له الفطر أوّل النّهار ظاهراً وباطناً، فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النّهار، كما لو دام العذر‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ فإذا جامع أحد هؤلاء، بعد زوال عذره، انبنى على الرّوايتين، في وجوب الإمساك‏:‏

1 - فإن قلنا‏:‏ يلزمه الإمساك، فحكمه حكم من قامت البيّنة بالرّؤية في حقّه إذا جامع‏.‏

2 - وإن قلنا‏:‏ لا يلزمه الإمساك، فلا شيء عليه‏.‏

وقد روي عن جابر بن يزيد‏:‏ أنّه قدم من سفره فوجد امرأته قد طهرت من حيض، فأصابها‏.‏

خامساً‏:‏ العقوبة

92 - يراد بالعقوبة هنا‏:‏ الجزاء المترتّب على من أفطر عمداً في رمضان من غير عذر، فهي من لوازم الإفطار وموجباته‏.‏

وفي عقوبة المفطر العامد، من غير عذر، خلاف وتفصيل‏:‏

فمذهب الحنفيّة أنّ تارك الصّوم كتارك الصّلاة، إذا كان عمداً كسلاً، فإنّه يحبس حتّى يصوم، وقيل‏:‏ يضرب في حبسه، ولا يقتل إلاّ إذا جحد الصّوم أو الصّلاة، أو استخفّ بأحدهما‏.‏

ونقل ابن عابدين عن الشرنبلالي، أنّه لو تعمّد من لا عذر له الأكل جهاراً يقتل، لأنّه مستهزئ بالدّين، أو منكر لما ثبت منه بالضّرورة، ولا خلاف في حلّ قتله، والأمر به‏.‏ وأطلق ابن جزيّ من المالكيّة في العقوبة قوله‏:‏ هي للمنتهك لصوم رمضان‏.‏

وقال خليل‏:‏ أدّب المفطر عمداً‏.‏

وكتب عليه الشّرّاح‏:‏ أنّ من أفطر في أداء رمضان عمداً اختياراً بلا تأويل قريب، يؤدّب بما يراه الحاكم‏:‏ من ضرب أو سجن أو بهما معاً، ثمّ إن كان فطره بما يوجب الحدّ، كزنىً وشرب خمر، حدّ مع الأدب، وقدّم الأدب‏.‏

وإن كان فطره يوجب رجماً، قدّم الأدب، واستظهر المسناويّ سقوط الأدب بالرّجم، لإتيان القتل على الجميع‏.‏

ومفهومه‏:‏ أنّه إن كان الحدّ جلداً، فإنّه يقدّم على الأدب - كما قال الدّسوقيّ - فإن جاء المفطر عمداً، قبل الاطّلاع عليه، حال كونه تائباً، قبل الظّهور عليه، فلا يؤدّب‏.‏ والشّافعيّة نصّوا - بتفصيل - على أنّ من ترك صوم رمضان، غير جاحد، من غير عذر كمرض وسفر، كأن قال‏:‏ الصّوم واجب عليّ، ولكن لا أصوم حبس، ومنع من الطّعام والشّراب نهاراً، ليحصل له صورة الصّوم بذلك‏.‏

قالوا‏:‏ وأمّا من جحد وجوبه فهو كافر، لأنّ وجوب صوم رمضان معلوم من أدلّة الدّين بالضّرورة‏:‏ أي علماً صار كالضّروريّ في عدم خفائه على أحد، وكونه ظاهراً بين المسلمين‏.‏

سادساً‏:‏ قطع التّتابع

93 - التّتابع هو‏:‏ الموالاة بين أيّام الصّيام، بحيث لا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفّارة‏.‏

تتأثّر مدّة الصّوم الّتي يشترط فيها التّتابع نصّاً، بالفطر المتعمّد، وهي - بعدّ الكاسانيّ -‏:‏ صوم رمضان، وصوم كفّارة القتل، وكفّارة الظّهار، والإفطار العامد في رمضان، وصوم كفّارة اليمين - عند الحنفيّة‏.‏

صوم المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان

94 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من اشتبهت عليه الشّهور لا يسقط عنه صوم رمضان، بل يجب لبقاء التّكليف وتوجّه الخطاب‏.‏

فإذا أخبره الثّقات بدخول شهر الصّوم عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم، وإن أخبروه عن اجتهاد منهم فلا يجب عليه العمل بذلك، بل يجتهد بنفسه في معرفة الشّهر بما يغلب على ظنّه، ويصوم مع النّيّة ولا يقلّد مجتهداً مثله‏.‏

فإن صام المحبوس المشتبه عليه بغير تحرّ ولا اجتهاد ووافق الوقت لم يجزئه، وتلزمه إعادة الصّوم لتقصيره وتركه الاجتهاد الواجب باتّفاق الفقهاء، وإن اجتهد وصام فلا يخلو الأمر من خمسة أحوال‏:‏

الحال الأولى‏:‏ استمرار الإشكال وعدم انكشافه له، بحيث لا يعلم أنّ صومه صادف رمضان أو تقدّم أو تأخّر، فهذا يجزئه صومه ولا إعادة عليه في قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، والمعتمد عند المالكيّة، لأنّه بذل وسعه ولا يكلّف بغير ذلك، كما لو صلّى في يوم الغيم بالاجتهاد، وقال ابن القاسم من المالكيّة‏:‏ لا يجزيه الصّوم، لاحتمال وقوعه قبل وقت رمضان‏.‏

الحال الثّانية‏:‏ أن يوافق صوم المحبوس شهر رمضان فيجزيه ذلك عند جمهور الفقهاء، قياساً على من اجتهد في القبلة، ووافقها، وقال بعض المالكيّة‏:‏ لا يجزيه لقيامه على الشّكّ، لكن المعتمد الأوّل‏.‏

الحال الثّالثة‏:‏ إذا وافق صوم المحبوس ما بعد رمضان فيجزيه عند جماهير الفقهاء، إلاّ بعض المالكيّة كما تقدّم آنفاً، واختلف القائلون بالإجزاء‏:‏ هل يكون صومه أداءً أو قضاءً‏؟‏ وجهان، وقالوا‏:‏ إن وافق بعض صومه أيّاماً يحرم صومها كالعيدين والتّشريق يقضيها‏.‏ الحال الرّابعة‏:‏ وهي وجهان‏:‏

الوجه الأوّل‏:‏ إذا وافق صومه ما قبل رمضان وتبيّن له ذلك ولمّا يأت رمضان لزمه صومه إذا جاء بلا خلاف، لتمكّنه منه في وقته‏.‏

الوجه الثّاني‏:‏ إذا وافق صومه ما قبل رمضان ولم يتبيّن له ذلك إلاّ بعد انقضائه ففي إجزائه قولان‏:‏

القول الأوّل‏:‏ لا يجزيه عن رمضان بل يجب عليه قضاؤه، وهذا مذهب المالكيّة والحنابلة، والمعتمد عند الشّافعيّة‏.‏

القول الثّاني‏:‏ يجزئه عن رمضان، كما لو اشتبه على الحجّاج يوم عرفة فوقفوا قبله، وهو قول بعض الشّافعيّة‏.‏

الحال الخامسة‏:‏ أن يوافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما وافق قبله لم يجزئه، ويراعى في ذلك أقوال الفقهاء المتقدّمة‏.‏ والمحبوس إذا صام تطوّعاً أو نذراً فوافق رمضان لم يسقط عنه صومه في تلك السّنة، لانعدام نيّة صوم الفريضة، وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ ذلك يجزيه ويسقط عنه الصّوم في تلك السّنة، لأنّ شهر رمضان ظرف لا يسع غير صوم فريضة رمضان، فلا يزاحمها التّطوّع والنّذر‏.‏

صوم المحبوس إذا اشتبه عليه نهار رمضان بليله

95 - إذا لم يعرف الأسير أو المحبوس في رمضان النّهار من اللّيل، واستمرّت عليه الظّلمة، فقد قال النّوويّ‏:‏ هذه مسألة مهمّة قلّ من ذكرها، وفيها ثلاثة أوجه للصّواب‏:‏ أحدها‏:‏ يصوم ويقضي لأنّه عذر نادر‏.‏

الثّاني‏:‏ لا يصوم، لأنّ الجزم بالنّيّة لا يتحقّق مع جهالة الوقت‏.‏

الثّالث‏:‏ يتحرّى ويصوم ولا يقضي إذا لم يظهر خطؤه فيما بعد، وهذا هو الرّاجح‏.‏

ونقل النّوويّ وجوب القضاء على المحبوس الصّائم بالاجتهاد إذا صادف صومه اللّيل ثمّ عرف ذلك فيما بعد، وقال‏:‏ إنّ هذا ليس موضع خلاف بين العلماء، لأنّ اللّيل ليس وقتاً للصّوم كيوم العيد‏.‏